الواجب العيني والكفائي
إن العبادات المذكورة في حديث جبريل عليه السلام فيها أمران: عبادة محضة على الأعيان، لكن ما الفرق بين العبادة المحضة وغير المحضة؟ العبادة المحضة تكون بالنية، فالأعمال التي لا تصح إلا بنية التقرب والتعبد مطلقاً، أما الأعمال الأخرى التي قد تدخل فيها النية، وقد ترد وقد لا ترد، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، فمن السلف من كان يحتسب المباح، كما قال معاذ لما قابل أبا موسى رضي الله تعالى عنهما: [ إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ] فمن الناس من يحتسب القومة والأكلة والشربة والنوم مع أهله، وكل شيء يحتسبه الإنسان فهو في الميزان لا يخسر شيئاً من حياته: (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الأنعام:162] فكل حركاته وكل سكناته جعلها عبادة بالنية والاحتساب والتقرب إلى الله، والتزود من الخير، والاستعانة على الطاعة. ومن الناس من يؤدي العبادة المحضة فقط لا ينوي فيكون قد خسر شيئاً عظيماً، فالمقصود أن العبادة المحضة المقصود منها نية القربة إلى الله تبارك وتعالى، ولو فعلها بدون ذلك لم ينل الأجر، ولم تبرأ الذمة، كما أن حقوق العباد لا تبرأ بها الذمة إلا أن تفي بما عليك، عندها تبرأ ذمتك، ويمكن أن تجعل هذه الأفعال عبادة، وذلك بأن تحرص على أن تقضي الدين، وتنوي بقضاء الدين أن تتخلص من أمرٍ عظيم جاء فيه الوعيد، وتتذكر أن المرء يكون عمله معلقاً بدينه، فأنت باجتهادك في تحقيق هذا المطلب أو الغرض الشرعي تكون قد جعلته عبادة، فأبرأت الذمة من جهة، وأجرت من جهة أخرى، ولكن إن لم تكن نويت في العبادات المحضة لم تبرأ الذمة، فلو أن أحداً تحرك كحركات المصلي الراكع أو الساجد ولم ينو الصلاة لا تبرأ ذمته هنا. وأما العبادات التي تجب على الأعيان فخرج بها العبادات التي لا تجب على الأعيان، ولهذا فيجب على كل من كان قادراً عليها أن يعبد الله بها مخلصاً له الدين، وهذا ما لا يتوفر إلا في الأركان الخمسة، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب معينة لمقاصد معينة، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل قد تكون فرضاً على الكفاية مثل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يتبع ذلك من إمارة وحكم وفتيا وإقراء وتحديث، فكل هذه لا تجب على أعيان الخلق، وإنما تجب على أهلها، ومعنى الكفاية أنها لا تجب على كل شخص، بل من كان من أهلها القائمين بها وجبت عليه عيناً، وذلك مثل الفتيا فهي تجب على أهل العلم وجوباً عينياً، لكن بالنسبة لمن لم يكن من أهل الفتوى لا تجب عليه وكذلك القضاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتعلق بفعل العامة لا يجب إلا في حدود ما يستطيع الإنسان عليه، والإقراء والتحديث كذلك إنما يتعلق الوجوب بأهله، فلو تخلى عنه أهله لأثموا؛ وهذا هو فرض العين. وأما ما يجب الكفاية، فمعناه أنه لا يجب على كل أحد؛ لأنه إما أن يجب بسبب حقٍ للآدميين يختص بالمكلف مثل بر الوالدين وحقوق العباد كرد الدين المغصوب، والودائع، والإنصاف من الأعراض والدماء والأموال، فهذه إذا فرغوا منها سقطت، ومنها ما يجب على شخص في حالٍ دون حال، كتعلم حقوق الزوجة فإنه لا يجب على الأعزب بل يجب على الزوج لئلا يخل بحق الزوج، وكذلك تعلم حقوق الجار لا يجب على من لا جار له، أو على جارٍ أخل بشرط من شروط الحقوق مثلاً، ويدخل في هذا ما كان له أسباب ومصالح خاصة، كحقوق صلة الأرحام والأولاد والشركاء والجيران وحقوق الفقراء على الأغنياء، ومعرفة أن في المال حقاً سوى الزكاة، مما يتعلق بالصدقة على الفقراء لا في الزكاة الواجبة، لأنها من الأركان الخمسة فهي من الفروض التي افترضها الله تعالى على أعيان العباد بشروطها، فالصوم بشرطه، والزكاة بشرطها من توفر النصاب وحولان الحول على ما يشترط عليه الحول وغير ذلك، وهذه الأعمال من الواجبات العملية، والإيمان قول وعمل، وأعظم أمور الإيمان هي هذه الأركان الخمسة. يقول الشيخ رحمه الله: (فما يجب على بعض الخلق من أداء الشهادة والفتيا والقضاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد كل ذلك يجب بأسباب عارضة على بعض الناس دون بعض؛ لجلب منافع ودفع مضار) يعني: مرتبطة بمصالح متغيرة متجددة وليست عبادة كالصلاة لا بد أن تؤديها وأينما كنت. فهذه المضار والمنافع لو حصلت دون فعل الإنسان لم تجب، كأن يكون عندنا كفار نريد أن نحاربهم فأهلكهم الله وانسحبوا، فلا يجب الجهاد على الكفاية ولا على الأعيان، بل يصبح تطوعاً، وكذلك تعلم أداء الشهادة والقضاء قد لا نحتاجها كثيراً؛ لأنه قد يوجد أناس لم يذهبوا إلى المحكمة في حياتهم كلها، والشهادة إنما يحتاج إليها إن كانت واجبة عليك، وهكذا، فهي تجب أحياناً ولمصالح وأسباب لو لم توجد لما احتيج إلى أدائها، ولما كانت واجبة. ويقول رحمه الله: (فما كانت مشتركاً فهو واجب على الكفاية، وما كان مختصاً فإنما يجب على زيد دون عمرو، ولا يشترك الناس في وجوب عمل بعينه على كل أحدٍ قادر إلا في هذه الأركان الخمسة) أي: فصوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة واجبات عينية.